فن

القاتل المأجور على الشاشة: أبطال دون بطولات

صنعت السينما أفلاماً عن قتلة محترفين أو متسلسلين خلقت من خلالها ما أصبح الآن أشبه بنمط مكرر، سمات ثابتة باتت كليشيهاً مزعجاً مع مرور الوقت..

future من اليسار ملصقات أفلام: «Le Samourai» / «The Killer 2023»/ «The Killer 1989»

«لا توجد عزلة أكبر من عزلة الساموراي، إلا عزلة النمر في الغابة … ربما».

خلقت السينما ما أصبح الآن أشبه بنمط مكرر، سمات ثابتة باتت كليشيهاً مزعجاً مع مرور الوقت، وهو صناعة أفلام عن قتلة محترفين أو متسلسلين معزولين عن العالم، بالغي الحرص، لديهم روتين يومي صارم، يخططون لجرائمهم بدقة جراحية، يكررون النظام نفسه بشكل يومي، لكن بالطبع تتخلل الدقة ثغرات توقع بهم عاجلاً أم آجلاً، أصبح من المتوقع تكرار ذلك النمط الذي يبدو كأنه خُلق من العدم واستمر إلى ما لا نهاية: القاتل مصاب باضطراب الوسواس القهري، القاتل يرتدي ملابس مكررة مرتبة بعناية، القاتل بارد، صامت، جاف الهيئة، غامض وشاعري تقريباً، تلفه غيمة ميلانكوليا، يدخل المكان المطلوب يحدد الضحية يقوم بعمله، يخرج من المكان، يتخلص من السلاح ويبدأ من جديد.

لم تصبح تلك الصورة النمطية للقاتل هي الأكثر انتشاراً من تلقاء نفسها، يمكن تتبعها بالضبط إلى عام 1967، بشكل خاص لشخصية جيف كوستيلو التي لعبها آلان ديلون في فيلم الساموراي Le Samourai لجان بيير ميلفيل، بمعطف المطر محايد اللون وقبعة الفيدورا، والقفازات البيضاء، صنع ميلفيل عالماً سينمائياً وصفه بأنه حلم، غير مرتبط بالواقع الفرنسي الآني وقتها (عام بعد مظاهرات 68)، صنع ستينيات يرتدي فيها الرجال قبعات كأنهم في أربعينيات أمريكا، ولا يوجد ما يحدد الزمن ظاهرياً، يغشى عالم الساموراي سكون مقلق، يتضاد تماماً مع كونه فيلماً عن القتل، القتل كعمل دوري وروتيني، يمكن وصفه بأنه عالم فيلم نوار، لكنه لا يغرق في الظلال وحدها، بل في ضوء بارد، يكشف كل شيء في نهارات لا لون لها، وليالٍ رمادية زرقاء متشابهة.

آلان ديلون في «Le Samourai 1967»

أثر تناول ميلفيل لشخصية كوستيلو في النظرة المعاصرة للقاتل المحترف، يمكن إرجاع السائق في Drive، القاتل في The Killer، جون ويك في John Wick ، ليون في «ليون المحترف – Leon»، وحتى ترافيس بيكل في «سائق التاكسي - Taxi Driver» لجون كوستيلو، وغيرهم الكثيرون، سواء امتهنوا وظيفة القاتل الأجير نفسها أو مهناً أخرى مشابهة تتطلب القدر نفسه من الدقة والتخفي، وبالتالي العزلة، فأصبحت الأفلام التي تستلهم جماليات الساموراي أشبه بنوع مستقل متفرع من نوع الجريمة.

القتل كوظيفة

ينحدر القاتل الأجير الحديث من فكرة الاغتيال، التي تعود ربما إلى الحشاشين من القرن الثامن، من حكايات الجنود الذين يغتالون الشخصيات السياسية تحت تأثير مخدر، لكن تلك الاغتيالات لها طبيعة سياسية ودافع إيماني أو وطني أو حتى انتقامي، في أفلام القاتل الأجير خاصة تلك المتأثرة بميلفيل فإن ذلك الدافع غير موجود، يمكن أن يخلق الانتقام نتيجة لانحراف ما عن الطريق أو اضطرار لتعديل المسار، وفي بعض الحالات تتدخل عاطفة إنسانية لتكسر حالة الاحترافية الشديدة.

يعتمد هؤلاء القتلة الموظفون على روتين صارم، تدريبات جسدية لا تدع مجالاً للضعف، وترتيب مسبق لحجج الغياب وشكل الأسلحة، ودراسة لمكان وصيغة القيام بالمهمة، يصبح الأفراد المقتولون في هذه العمليات أهدافاً أشبه بالألواح الورقية يصعب بناء عاطفة تجاههم أو تصورهم كبشر مكتملين، في «ليون المحترف - Leon: The Professional» (1994) المتأثر بالساموراي يأخذ ليون (جان رينو) القاتل الخجول المنعزل فتاة في الثانية عشةر ليعلمها القنص بعدما فقدت عائلتها كلها، يصعدون إلى السطح ويختارون هدفاً عشوائياً برصاصات مزيفة، لكن أثناء المشهد قبل معرفة زيف الرصاصات يبدو ذلك التدريب عادياً ويومياً، ويستدعي تصور أنه ربما كل فرد يستحق القتل لذنب ما.

جان رينو وناتالي بورتمان في «Leon 1994»

تأخذ أفلام مثل ليون و«القاتل - The killer» (1989) لجون وو، وجون ويك، و«القاتل - the killer» (2023) لديفيد فينشر برود جيف كوستيلو وروتينيته، وتضيف دوافع إضافية ملائمة لأساليب صانعيها وسياق الأفلام في تاريخ عرضها، تضع حبكات تخرج القاتل من شكل الحياة العدمي إلى أشكال أكثر تقليدية، عادة ما تتغير دوافع هؤلاء المحترفين بعد تاريخ طويل من العمل المشابه لعمل جيف كوستيلو، فغالباً ما يكون ذلك المحترف أو ذاك في المهنة منذ سنوات، ربما حتى منذ طفولته كما في حالة ليون، لكن تلك الدوافع التي تصنع روابط عاطفية مع البطل المجرم هي بالضبط ما يكتب نهايته، وربما يؤطر فشله بعد مسيرة ناجحة دقيقة من العمليات لصالح الغير.

تحتل أفلام القاتل المأجور، خاصة التي تعتمد على تأثير الساموراي على المعايشة، مشاهد تدريبية طويلة ربما تكون أكثر من مشاهد القتل نفسها، يعتمد مثلاً «الأمريكي - The American» (2010) لأنتون كوربين على عملية تركيب وتخصيص السلاح لضحية وقاتل بعينهم في مكان وسياق محددين، يستعير الفيلم الشكل الأكثر بطئاً المرتبط بشكل نمطي بالسينما الأوروبية عن الأمريكية لكي يتأمل تفاصيل المهنة نفسها، يجعلها أكثر واقعية، ويؤكد احتراف جاك (جورج كلوني) في عمله، تستعير أفلام مثل جون ويك لتشاد ستاليسكس وليون والأمريكي والقاتل لفينشر إيقاع الساموراي وثيماته وتركيب شخصيته، بينما يستعير منه القاتل لجون وو نقاط حبكة معينة ويقلب نواياه الرئيسية، لا وجود للبرود والدقة، بل مشاهد أكشن متفجرة.

يتعامل جون ويك مع فوضى مشابهة لقاتل وو، لكنه يستخدم الدقة داخل الفوضى بالحرص الشديد في تصميم مشاهد الحركة، حيث يمكن رؤية حتى اتجاه كل طلقة تُطلَق وكل حركة قتالية يقوم بها ويك (كيانو ريفز)، بينما يأخذ قاتل فينشر تأثير الساموراي لأبعد نقطة ممكنة، بتكرار يومي للمونولج نفسه بالتلفظ بمانيفستو التزامي والتزام القاتل العزلة في الغرف المظلمة، والاختفاء عن الضحية التي لا تعني شيئاً عدا كونها عملية أخرى ناجحة، كما أن القاتل لا اسم له، هو مجرد شخص آخر، موظف محترف مجهل قادر على القيام بمهمته، يتابع القاتل فاسبندر بينما يقوم بشراء أدواته وأجهزته ومعداته أثناء استلامها، وأثناء سفره وتنفيذه للضربة الأخيرة القاتلة.

عالم بدون عاطفة

يلاحظ ناقد Senses Of Cinema أدريان دانكس في عوالم ميلفيل أن الطقوس الرواقية الجافة هي وسيلة الشخصيات في أخذ مسافة آمنة من العالم، عن طريق الحفاظ على شكل من النقاء المستحيل، أو ادعاء احترافية صارمة، وفي لحظة كسر تلك الاحترافية أو النقاء فإن عالم الشخصيات ينهار. يمكن تطبيق ذلك على مجموعة كبيرة من القتلة المحترفين المنبثقين من عالم الساموراي أو عوالم ميلفيل، ينهار عالم ليون عندما يقابل ماتيلدا فيصبح أقل احترافية وأكثر عرضة للتعاطف، وينهار عالم ويك عندما ينساق وراء انتقام ممن قتلوا كلبه وهو صلته الوحيدة بأي مشاعر إنسانية متبقية، كذلك عالم قاتل فينشر باختطاف حبيبته والتعدي عليها، لكن قبل ذلك ينهار العالم عندما يخطئ القاتل الهدف، التعرض للخطأ الإنساني هو ما يكشف عن هشاشة عوالم هؤلاء الرجال المثاليين الآمنين.

مايكل فاسبندر في «The Killer 2023»

في عوالم القتلة المأجورين السينمائية تصبح العاطفة أو أنسنة مشاعر القاتل سقطة عملية، تورط جون كوستيلو في الأنسنة عندما لمحته عازفة بيانو في نادٍ للجاز ورفضت الإفصاح عن هويته، لكن ميلفيل لم يحول تورطه إلى ميلودراما مكتملة، استعاض عن ذلك بتعزيز تراجيدية نهايته، وربطه من البداية بشكل بالغ القدم من مواثيق الشرف اليابانية في اسم الفيلم والاقتباس الذي يبدؤه عن عزلة الساموراي، وكأنه يسخر بشكل مبطن من الفكرة نفسها، يكتب الاقتباس على شاشة تظهر عليها حجرة زرقاء قديمة، لا تحوي إلا كوستيلو وطائره، لا يبدو عليها الثراء الذي يجب أن يكون عليه كونه قاتلاً محترفاً، لكنها باردة وتشبهه تماماً، ربما في الأمان والابتعاد عن الأنظار.

تشبه تلك الغرفة غرفة ليون في عمارة عادية في منطقة عامة في نيو يورك، عمارة يسكنها متورطون في جرائم المخدرات والقتل، بينما يأخذ قاتل فينشر أسلوب حياة مختلف ومزدوج، يراقب أهدافه في غرفة مظلمة في دور مرتفع، لكنه يمتلك بيتاً ضخماً في جزيرة لاتينية ومعه حبيبة، يعود إليها وتعمل كسقطة عاطفية تحيده عن احترافيته الباردة، في حالة جون ويك فإن البيت الحداثي الضخم ناتج الثروة، لكن عالم جون ويك أكثر غرائبية من العوالم الأخرى التي تشير إلى عصورها بشكل أو بآخر، فإذا تقصد ميلفيل تشويه شكل الواقع الفرنسي في الستينيات عن طريق الأزياء والجو العام، فإن عالم جون ويك هو نسخة معدلة من العالم المعاصر، نسخة تحتضن عوالم الجريمة ومواثيق الشرف الخاصة بها، وعلى الرغم من عزلة ويك الاختيارية، فإنه يمتلك شبكة دعم واسعة في الكونتنتال، تأتيه المهمات تباعاً لكنه يملك احترام وتقدير العاملين في مجاله، فهو مجرم تحت أرضي، لكن العالم تحت الأرضي هو عالم موازٍ ومتكامل.

قتل بدون بطولة

تكمن تراجيديا القاتل في كون عمله غير مشكور مجتمعياً، هو مقدر مادياً، لكنه مهمش، لا بطولة في وجوده ولا شرف في عمله إلا الشرف الذي يخلقه لنفسه بشكل ضد مجتمعي، على عكس قتلة آخرين يعملون في سياقات وطنية أو حكومية، سواء في سياقات واقعية أو سياقات سينمائية ترفيهية، مثل جيمس بوند، أو إيثان هانت في «مهمة مستحيلة – Impossible Mission»، فإن القتل أو ممارسة العنف للقاتل الأجير لن يقابل بترحاب بطولي في النهاية، حتى إن قتل للأسباب نفسها التي تقتل من أجلها الحكومات، يتأطر ذلك بوضوح في فيلم «المحترف - The Professional» (1981) بطولة جان بول بيلموندو، يمكن رؤية مزج بين شكلين من ممارسة العنف النظامي، جوسلين بومونت هو قاتل أجير يعمل لصالح الحكومة الفرنسية، لكنه عنصر خُلق لكي يتم التخلص منه وقت الحاجة، هو موظف ليس في يده أكثر من تلقي الأوامر؛ لأنه هو من يلوث يده في النهاية، يؤمر بومونت بقتل رئيس دولة أفريقية متخيلة، وعندما تتغير الإدراة الفرنسية تتغير توجهاتها السياسية وتتراجع الجهة المعنية عن قتله، لكن ذلك الخبر لا يصل إليه، يظل هنالك في تلك البلاد بعدما كُشف أمره، يمر برحلة شاقة من السجن والأعمال البدينة فيعود بعد ذلك لينتقم، أو بشكل أدق لكي يستعيد أهليته ككقاتل محترف، يختار هو الهدف والمصير، ليس في شكل فورة قتل انتقامي، مثل القاتل وليون، لكن بالشكل المحترف نفسه، عن طريق تخطيط دقيق لأخذ الحيوات التي يختارها من أجل دوافعه الشخصية.

جان بول بيلموندو في «The Professional 1981»

تدور أحداث تلك الأفلام في عوالم محكمة الغلق سينمائياً وسردياً، عوالم لا فوضوية تعمل باستمرار وتراتبية، مكان القاتل فيها ليس هو الأساسي هو المهمش المخفي في حياة الفيلم الداخلية، لكن ليس في خيارات الفيلم الخارجية، نحن نراه كما يرى نفسه بطلاً منعزلاً في أزمنة رأسمالية باردة، تغلفه خياراته الشكلية الصارمة، لا يعنيه التخفي أو التنكر، لكنه يبدو كما هو كل مرة لأنه يجب ألا يُرى من الأساس، يرتدي جون ويك بذلة سوداء مثالية، وجيف كوستيلو معطف مطر وقبعة، وليون طاقية صوفية صغيرة وحمالات ومعطفاً أسود، بينما يشير قاتل فينشر إلى كوستيلو بشكل مباشر بارتداء قبعة تخرجه من سياق زمنه.

القاتل جندي مجهول في عالمه، لكن ليس بطلاً إلا لنفسه، تكمن البطولة في النجاح نفسه، في نظافة إتمام العملية، غير ذلك فإن القاتل المحترف نظرياً موظف في هرم وظيفي كبير هو الأخير به، هو المنفذ لنوايا الغير والمتحكم بشكل وهمي في عالمه الشخصي، وهو ما يجعله صالحاً لإسقاط مجازي على شكل العمل في العوالم الحديثة، عمل دون أخلاقيات تقليدية ودون تحكم حقيقي في خيارات الحياة.

يولد ذلك النبذ المجتمعي وضرورة التخفي عزلة إجبارية نظرياً، لكنها اختيارية من وجهة نظر صانعها، وتستلهم معظم حكايات القتلة ذلك الوجود الميلانكولي الذي ارتبط بكوستيلو، فهو بعيد عن مهنته اللاأخلاقية (الأخلاقية في عالمه نظراً لمواثيق الشرف الصارمة) هو مجرد رجل وحيد يبحث عن الحب والحياة، لكنهما ليسا من حقه، يقدم القاتل لجون وو رؤية بديلة، شيء نادر في تلك المجموعة من الأفلام وهو العلاقات الرجولية الأخوية، التضحية من أجل الصداقة والتعاضد الرجولي الذي يبني كوداً أخلاقياً خاصاً به، بعيداً عن الحب الرومانسي أو دوافع الانتقام، وهو شيء لا يختبره بقية الرجال القتلة المأجورين في عزلتهم التي لا يخرجهم منها غير الانجذاب لامرأة، ومن ذلك الرغبة في بناء حياة عادية، تصبح مستحيلة بعد سنوات من الانسلاخ تماماً من كل عادي، فالعادية بشكل أو بآخر هي مدخل للفوضى لاضطراب دقة الحسابات وخرق الروتين الذي يؤدي بالقاتل لنهايته وخيانة نقاء حياته: حياة بلا حب وبلا علاقات اجتماعية أي بلا قيود.

اعتمد ميلفيل في فيلمه على استدعاء ثقافة الساموراي، المتعلقة والمرتبطة بشكل أساسي بالشرف، برفض الهزيمة وبإيجاد المجد حتى في الموت، حتى إذا اضطر المحارب أن ينفذ الموت على نفسه فيما يعرف بـ «السيبوكو - Seppuku»، فتبع وصفته مئات الأفلام التي تتخذ من عزلة الساموراي وميله الانتحاري منهجاً. غالباً ما تنتهي حياة القاتل الأجير بالموت، ليس موتاً عقابياً درامياً أو تطهيرياً إغريقياً، لكنه تراجيديا شبه انتحارية، تصميم طريق شخصي يودي حتماً للموت، يحدث الموت عندما يحيد الموظف المحترف عن الطريق المكتوب له مرة واحدة فقط، سواء كان ذلك بسبب الحب أو بسبب الخطأ، في إشارة لحتمية قدرية، إذا اعتاد المحترف طيلة فترة عمله ألا يُمسَك به أبداً، ألا يترك أثراً أبداً، فإن لحظة تركه للأثر أو إثبات أنه موجود من الأساس هي لحظة انتحاره.

# سينما عالمية # سينما # فن # القاتل المأجور في مواجهة القاتل المتسلسل

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن